طالبان بين العقائدي والعسكري والسياسي (3_1)
يمنات
قادري أحمد حيدر
مفتتح:
“وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن يقول: أن بلاده حققت الهدف الرئيسي من تواجدها العسكري في أفغانستان. عن أي هدف يتحدث بلينكن إذا كانت طالبان عادت إلى السلطة في رمشة عين، وكأن شيئاً لم يكن؟ ما يحملنا على قبول الرأي القائل بأنه إن كان هناك من هدف أمريكي قد تحقق، فهو “ترويض” طالبان لا لكي تكف عن ظلاميتها وتطرفها وتخلفها وعدائها لحقوق الإنسان ، ولحقوق المرأة خاصة، وإنما لكي تكف عن استهداف المصالح الأمريكية والغربية، وسوى ذلك فلتفعل ما تفعل”.
د.حسن مدن
صحيفة الخليج الإماراتية 17/أغسطس/2021م.
1-كلام في الصراع العسكري والسياسي الأفغاني:
إن الظاهرة الطالبانية في تحولاتها السياسية والعسكرية، وفي ارتباطاتها المحلية والإقليمية والدولية – اليوم – ما تزال حالة/ ظاهرة في طور التبلور والتحول، وما نزال بحاجة إلى دراسة أعمق وأشمل لمعناها في سياق ما يجري على المستوى الأفغاني الداخلي، وعلى المستوى الإقليمي والدولي. فطالبان لم يكتمل معناها السياسي، ناهيك عن معناها التحرري والوطني، وفي حالة سيرورة، ولذلك من الصعب إصدار أحكام أيديولوجية أو سياسية تحليلية نقدية باتة حول معناها، إلا بما يسمح به حدود الكلام السياسي العام.
في تقديري، أن الحكم على طالبان بأنها “حركة تحرر وطني” فيه الكثير من التعسف، والذي لا تدعيه طالبان ذاتها، ولا تقول به التحليلات النظرية والسياسية المختلفة فطالبان منذ النشأة التكوينية في أحضان الاستعمار، وحتى اليوم، لا تتحرك للأمام بل في مسار نقيض لخط التقدم الاجتماعي التاريخي، بل وفي حالة معاكسة لحركة التحرر الأفغانية في مسار تاريخها الحديث والمعاصر، علماً أن حركة التحرر الوطني العالمية لم تنشأ في أحضان الاستعمار ، بل وجدت وتكونت في ظروف الهيمنة الاستعمارية، وضد المعنى الوجودي للاستعمار.
إن “طالبان” لم تك في أي مرحلة من مراحل وجودها وعملها العسكري والسياسي تجسيداً لمشروع سياسي وطني، وقومي تحريري ضد الاستعمار بدلالاته السياسية والأيديولوجية والاقتصادية، – أقصد مشروع للتحرر الوطني، وليس للتغيير السياسي والاجتماعي والإقتصادي – وما يجري ويحصل اليوم يقول ذلك بجلاء!! هي غير مؤهلة ذاتيا لأن تكون كذلك، ومن هنا نرى أنه من الصعب أن نبني ونقيم أحكاماً نظرية/ وسياسية على حركة/ عقائدية/ سياسية/ متخلفة ورجعية بالمنظورين السياسي، والوطني، بل وبالمنظور التاريخي، وما تزال في حالة سيرورة ومستقبل تطورها ومآلاته في علم المجهول، وكل المؤشرات الأولية لصراعها العسكري والسياسي مع الأمريكان والحكومة التابعة لهم يؤكد أننا أمام عودة ثانية لطالبان للحكم.. حركة عقائدية/ مذهبية قبلية لا يمكننا اعتبارها “حركة تحرر وطني”، حركة تمثل وتشكل حالة قطيعة مع التاريخ السياسي الوطني، والقومي التحرري للشعب الأفغاني، ولا شبيه لها في التجارب السياسية لحركة التحرر الوطني، هي مثال ذاتها الخاص، حركة أفرزتها وأوجدتها شروط ذاتية وموضوعية إقليمية ودولية مختلفة، ومناقضة للفعل السياسي التحرري الوطني المنشود للشعب الأفغاني.. حركة بدأت نشاطها بإسقاط رئيس دولة أفغانستان الديمقراطية، وبإعدام رئيسها/ محمد نجيب الله،وبالتحالف مع الامريكان، والعالم كله يتفرج، ومن حينها وقع الشعب الأفغاني تحت قبضة الجماعات الأرهابية” طالبان والقاعدة”، وبدعم أمريكي غير محدود.
إن ما يجري على الأرض السياسية في أفغانستان لا يقول إننا أمام مستقبل سياسي مبشر، ويحمل في طياته البديل السياسي التاريخي لما كان قبل طرد الأمريكان، والحكومة الأفغانية العميلة، حتى في حدوده الدنيا. هذا، إن لم تدخل البلاد مع عودة طالبان ثانية للحكم، في دوامة عنف وحروب أهلية لا تتوقف إلا لتبدأ.
إن الشيء الأكيد هو صعوبة تسميتها بأنها “حركة تحرر وطني أفغانية”، أو أنها يمكن أن تندرج ضمن نطاق ما نسميه “حركة تحرر وطني”، وذلك لأسباب عديدة، سنأتي إلى ذلك ضمناً وفي سياق القراءة العامة، في الفقرات المختلفة.
واضح من خلال عملية الصراع العسكري والسياسي والعقائدي بل ومن خلال حالة الحرب الأهلية ضد المجتمع، الذي اكتنف وترافق مع رحلة الكر والفر، الحرب، والمفاوضات، بين طالبان والأمريكان، ومع الحكومة الأفغانية التابعة للأمريكان، أن حجم المفاجآت العسكرية والسياسية كبير لدرجة يمكننا أن نقول إننا كنا نشهد الصدفة أو ما تبدو كذلك وقد تحولت إلى ضرورة، بدون مقدمات ولا أسباب واضحة ومفهومة. فخلال أسبوع أو عشرة أيام تساقطت الولايات والمناطق الافغانية بصورة متسارعة ومثيرة للانتباه، مفاوضات، وحالة، هي بين الحرب واللا حرب، وحتى دخول طالبان دون قتال حقيقي إلى العاصمة كابول، وكأننا أمام دور تسليم واستلام، وحتى اليوم ما يزال دور التسليم والاستلام قائماً في صورة قتال جزئي هنا أو هناك، وتفجيرات ومفاوضات لا نعرف كيف تدار!!، مع إعطاء الأمريكان حق السيادة أو الإدارة على المطار وما حوله إلى تاريخ 31/8/2021م، هذا بعد هروب الرئيس الأفغاني المفاجئ أو المرتب، لا نعرف.
إن هذا الوضع السياسي القلق والمرتبك، والمضطرب الذي نشاهده أمامنا بوضوح هو ما يجعلنا نتأنى كثيراً في اصدار أحكام ذات طابع تاريخي، أحكام إطلاقية قاطعة مانعة من مثل: إن حركة طالبان في تمظهرتها السياسية والأيديولوجية هي “حركة تحرر وطني”.
ولا أخفي، في هذا السياق، انحيازي التحليلي الفكري، السياسي مع من يقول إن “طالبان لم تنشأ في سياق عملية حركة تحرر وطني ضد محتل أجنبي، بل في سياق حرب أهلية بين فصائل ما سمي بــِ “الجهاد الأفغاني” وضمن معادلة سياسية معقدة ومركبة محلية وإقليمية ودولية، وفي الأمس القريب كانت في نطاق هيمنة سياسية عسكرية أمريكية على البلاد، تحت مظلة حكومة تابعة .
لقد عجزت الحكومة الأفغانية التابعة، ومعها الأمريكان، عن التحول من السلطة إلى الدولة، -لأن مهمة الأجنبي في جميع الحالات المماثلة ومنها اليمن – ليس بناء الدولة- وهي واحدة من الثغرات والمناخات المناسبة، التي اشتغلت عليها جماعة طالبان بعد ترك المجتمع نهباً للصراعات البدائية المتخلفة، وترك أموال البلاد المحدودة نهباً لجماعات فساد داخلية، وخارجية. وطيلة عقدين من الزمن تحركت طالبان ضمن هذه الأجواء السياسية والاقتصادية الفاسدة، واستكملت تشكيل قواعدها العسكرية بصورة جديدة، في قلب أرياف البلاد، ضمن حالة هي أقرب للكر، والفر. وفي كل الأحوال، وضمن أغلب التحليلات والتقارير السياسية لما يجري في أفغانستان، لا يمكنك اعتبار طالبان هي البديل السياسي التاريخي، بل ولا حتى البديل المؤقت، لما كان قائماً، كما أننا لم نقرأ في كل ما ينشر عن طالبان، أو ما تقوله هي عن نفسها، من أنها تحمل مشروعاً سياسياً وطنياً لمعنى التحرر، والاستقلال والسيادة، وقد تكون الجماعة الحاكمة الأفغانية، في بعض القضايا الاجتماعية، تحت القبضة الأمريكية، هم الأكثر “حداثة”، من حيث الشكل على الأقل من الجماعة الطالبانية.
فطالبان حتى اللحظة، لم تقدم مشروعاً سياسياً وطنياً بديلاً على الصُّعد كافة ، ومن هنا صعوبة توصيفها عبر مسيرتها السياسية طيلة العقدين المنصرمين، وحتى لحظة سيطرتها أو عودتها ثانية للحكم، بأنها حركة تحرر وطني.
إن قولنا عن جماعة أو حركة أو جهة سياسية ما بأنها “حركة تحرر وطني”، إنما يعني أننا أمام إرادة سياسية جمعية وطنية مستقلة بهذه الدرجة أو تلك، وإلى أن هناك هوية سياسية اجتماعية وطنية جامعة تعكس وتمثل مصالح معظم شرائح، وفئات وطبقات المجتمع أو على الأقل نماذج سياسية تمثيلية منها، وتفتح بحركتها السياسية أفقاً جديداً نحو المستقبل أو على الأقل تبشر إعلامياً وسياسياً (برنامجياً)، بذلك. وحركة طالبان في هيئتها العقائدية والسياسية والطائفية والقبلية لا تمثل هذا القاسم المشترك للهوية الجمعية الوطنية الأفغانية حتى في حده الأدنى، إن لم تك نقيضاً للهوية السياسية الوطنية والقومية الأفغانية المنشودة.
يكفي منظر هروب الأفغان بالآلاف منهم بعد بداية إعلان سيطرتهم على البلاد، وتفضيل بعضهم الموت بالسقوط من فوق الطائرات، أو الموت تحت عجلات الطائرات لتهشم أجسادهم قطعاً، إلى هروب عشرات الآلاف عبر المنافذ البرية العديدة: الباكستانية، الأيرانية، وعبر الجبال …إلخ وما تزال أفواج الطالبين للمغادرة أو للهروب في ازدياد حتى وقفت طالبان لهم بالمرصاد لتمنع خروجهم أو هروبهم، وهناك مشهد فاجع ومأسوي، مشجون بخوف الدنيا كلها، مشهد لأمهات يلقين بأطفالهن بين أيدي المغادرين، وهي صورة خوف من الآتي، لن تزول بسهولة من الأذهان، وحسب بعض التقارير فقد وصلت عدد رحلات الطيران من أفغانستان إلى خارجها في اليوم الواحد إلى أكثر من اثنين وأربعين رحلة طائرة مغادرة. وهذا المنظر ليس منظر هروب العملاء الفيتناميين بعد سقوط “سايجون” “هوشي منه” بعد التحرير والاسقلال من أمام حركة التحرر الوطني المقاومة للاستعمار الفرنسي سابقاً، في معركة “ديان بيان فو” 1954م، ولاحقاً في طرد المستعمر الأمريكي وبتلك الصورة المذلة، بداية لإعلان تآكل وسقوط الإمبراطورية الأمريكية. والفارق كبير بين مقاومة الفيتناميين حتى طرد الأمريكان من “سايجون” في صورة عملاء ينتحرون وهم في حالة فرار، وبين حالة افغانستان اليوم، حيث جزء من الشعب الأفغاني، حتى ممن ليس لهم صلة بالنشاط السياسي، هم من يطلبون المغادرة خوفاً من مستقبل مجهول ينتظرهم!!
إن الوطن في العقل السياسي لحركة طالبان، حدوده السياسية الداخلية ، هي حدود انتشار جغرافيا المذهب والقبيلة، في الغالب الأعم، كما هي أرض الشيعي، والسني والسلفي، كما هو في فكر بعض الجماعات الجهادية التكفيرية المتطرفة. الفكر السياسي السني عند البعض، هو وطن الإمارة الإسلامية الذي هو أقل حتى من حدود الوطن في دولة “الخلافة الاسلامية” عند الجماعة السياسية الإسلامية: الإخوان المسلمين أو الخارجين من تحت سقوفهم الأيديولوجية، وأطرهم التنظيمية، الذين لا حدود وطنية لهم، فالوطن حدوده، حدود دولة الاسلام .
وفي تقديري، أن جماعة أو حركة مثل “طالبان” أتصور، أنه يصعب علينا توصيفها بأنها حركة تحرر وطني!!. الوطن عندهم. كما هو في العقل السياسي لحركة طالبان، إلى حيث تمتد سلطتهم السياسية والمذهبية “الطائفية” والقبلية عبر فكر التغلب على الآخرين، من خلال وسيلة “التمكين”.
لا أحد يمنح صكوكاً وطنية أو تقدمية لأحد، ذلك أن حقائق ووقائع الممارسة السياسية في تطوراتها وتحولاتها هي من تعطي هذا أو ذاك صفة الوطنية، أو التقدمية في صور ما تحمله هذه الجبهة السياسية، أو تلك من رؤية فكرية وسياسية وطنية تجاه معنى التحرر، والسيادة والحرية والاستقلال، ومدى حضور أفق الاصلاح والتغيير في مشروعهم. إن كل ذلك هو من يعطي هذا أو ذاك من الأحزاب، أو القوى صفة “الوطنية” ومن أن ذلك “حركة تحرر وطني” أم لا .
فجميع حركات التحرر الوطني العالمية، بما فيها الحركات التحررية الوطنية الدينية، في كل القارات، بما فيها في منطقتنا العربية (الجزائر / اليمن إلخ) كنت تطالع وتقرأ في أدبياتها وبرامجها ذلك المشروع السياسي والوطني التحرري ، أقصد “الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل” وفصائل العمل السياسي الوطني اليمنية، والذي وجدناه بصورة أو بأخرى متجسداً في الممارسة العملية قبل الاستقلال، وبعد الاستقلال، بصرف النظر عن أخطاء أو حتى خطايا التجربة في كل منها.
وفي التاريخ السياسي التحرري العربي والعالمي شهدنا حركات تحرر وطنية وقومية في أغطية أيديولوجية/ دينية، كانت بحق مهداً وقوة دافعة لحركة التحرر الوطني حيث وجدت!
الحركة المهدية في السودان والحركة الوطنية الليبية/ السنوسية، وكذلك في الجزائر، وحركة الريف الوطنية في المغرب، فضلاً عن الرموز الفكرية الوطنية الدينية في طابعهم الديني الإصلاحي النهضوي، في تحريرهم للفكر، وفي دعوات تحريرهم للوطن من الداخل المستبد والمتخلف، إلى دعواتهم إلى تحرير الوطن من المستعمر، وجميعهم اكتسب صفة مقاومة الاستعمار فضلاً عن صفة النهضة في صورة الرموز التحررية التنويرية، اكتسبوا ذلك من خلال الفكرة/ المشروع، ومن خلال الموقف والممارسة.
وشخصياً –وقد أكون مخطئاً- لا أجد في حركة طالبان شروطاً ومقومات تدل على أنها “حركة تحرر وطني”، بعيداً عن المناقشة اللفظية للمعنى اللغوي الذي لا يضيف شيئاً يعتد به إلى واقع حقيقة حركة طالبان، ومن أنها لا تتعدى كونها حركة دينية مسلحة بدون مشروع سياسي للتحرير الوطني.. هي في تقديري حركة، يحركها منطق وأيديولوجية أن “الجهاد”، هو منتهى الإسلام، وسنامه، حركة مذهبية/ دينية/ سياسية تجاهد طيلة عقدين من الزمن لتغليب العسكري في تكوينها الداخلي، على السياسي، تغليب “الجهادي”، في عمقها العقائدي على السياسي، وما تزال حتى اللحظة في حالة صراع داخلي بين تكويناتها المختلفة لتقليص حجم عنف التيار العقائدي، والعسكري، لصالح السياسي وهو مشروع سياسي سيروري طويل، يجري في قلب الحركة ولا نستطيع التنبؤ بمآلاته، وكيف ستحسم طالبان موقفها في المدى المنظور أو المتوسط من فكرة بناء الإمارة الاسلامية، وخطاب “تطبيق الشريعة الاسلامية” وفقاً لتأويلها الأيديولوجي النصي والحرفي للنص الديني، وما هو موقفها من “القاعدة” و”داعش” ومن بناء الدولة الوطنية الأفغانية الحديثة .. وهذه كلها مؤشرات وعلامات محددة لمعناها في ما سيأتي من الأيام، هذا قبل أن نتعجل في الحكم بأنها “حركة تحرر وطني”.
إن طالبان، حتى اللحظة، لم تخرج ولو بفسحة صغيرة من جلبابها العقائدي الأصولي المتشدد، ولا من خيارها العسكري “الجهادي” ضد الداخل والخارج، إلا في حدود بسيطة تكاد لا ترى، وتحت ضغوط سياسية خارجية، وليس بفعل مراجعات ذاتية خاصة بها، وكل تنازلاتها السياسية لا تتجاوز حدود تشكيل سلطة تنفيذية (حكومة)، بمشاركة مع بعض أطراف النظام السابق، وفي إطار “اتفاق سلام” بين طالبان والأمريكان وحلفائهم.
كما أنني شخصياً، وفي حدود قراءاتي لمسار حركة التحرر الوطني العربية والعالمية، لم أقرأ أن هناك “حركة تحرر وطني” وجدت، وكانت تحمل في داخلها مسبقاً عداءً صارخاً للحريات العامة ، وللديمقراطية كخيار سياسي، وكارهة ومعادية لحرية الرأي والتعبير، ولا تحمل في خطابها السياسي والإعلامي حتى أوليات لمعنى بناء الدولة الوطنية، ومن أنها قد لا تكون حريصة على حماية الوحدة الوطنية لأفغانستان. فهل بعد كل ذلك تستحق مثل هذه الجماعة أو الحركة أن يطلق عليها اسم أو صفة “حركة تحرر طني”؟!!
نعرف من سياق قراءتنا لتجارب عديدة من حركات التحرر الوطني، أنها تحولت بعد إنجازها للاستقلال السياسي/ الوطني، وتربعها على قمة السلطة، تحولت إلى قوى معادية للحريات السياسية، ومؤسسة لأنظمة فاسدة، على أنني لم أسمع أن هناك “حركات تحرر وطني” يقول محتواها الأيديولوجي والسياسي، وهي في قلب صراعها السياسي والعسكري مع المستعمر الأجنبي، إنها معادية للسياسة وللمدنية وللحياة العصرية بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، وهذا ما تقوله طالبان، وفي العلن لكل الناس حتى قبل أن تستكمل استلامها للسلطة السياسية، أو عودتها ثانية للسلطة/ الحكم.
لست من دعاة تأويل الانتصار السياسي والعسكري الغامض والملتبس لطالبان بأنه مؤامرة أو ثمرة صفقة بمفهوم “نظرية المؤامرة”، ولكن الشيء الأكيد هو أنني في غاية الحذر من توصيف طالبان بأنها “حركة تحرر وطني”.
ومن هنا فأنني لا أرى في انتصار حركة طالبان سوى أنه انتصار سياسي لها، وليس انتصارا للشعب الأفغاني المقهور، انتصار سينعش ويقوي عود الجماعات والتيارات المتطرفة والإرهابية في الداخل الأفغاني، وفي دول جوار أفغانستان.
ولا اجد تسمية لما يطلق عليه من انتصار، سوى أنه إنتصار بطعم الهزيمة.
إن الغائب الأعظم في سياق ما يجري في أفغانستان اليوم، هي “الوطنية الأفغانية”، الوطنية الجامعة لكل الشعب الأفغاني حتى في حدودها الدنيا، والخشية أن يقود استيلاء حركة طالبان على السلطة، إلى تمزيق ما تبقى من البنية العميقة التاريخية للوطن الأفغاني ، الذي من المفروض أن تتشكل فيه حالة سياسية وطنية، تتحرك باتجاه استعادة روح هذه الصيغة الوطنية والقومية الموحدة، التي لعبت طالبان، والقاعدة، مع الغرب الاستعماري دوراً في تدميرها وتفكيكها.
وفي ختام هذه الفقرة من الحديث أو الكلام في السياسة والصراع بين طالبان والأمريكان والحكومة الأفغانية التابعة، ومجموع الأغلبية الشعبية الوطنية والتحررية الصامتة والمقموعة من الشعب الأفغاني الذين لا يتحدث أحد عنهم، وكأنهم كم مهمل، أقول إنه لا يجوز أن يجير كفاح الشعب الأفغاني الوطني والقومي وكأنه يصب في ذات مسار نشاط طالبان اليوم، وأن يقودنا ذلك إلى الخلط بين ذلك التاريخ السياسي والوطني والقومي التحرري للشعب الأفغاني وبين المشروع “الجهادي” والسياسي لجماعة طالبان، ليصل بنا الأمر إلى اعتبارالطالبان “حركة تحرر وطني”!!
إن فكرة وقضية التحرر الوطني، ونحن على عتبات النصف الأول من العقد الثالث للألفية الثالثة، لم يعد منحصراً في التحرر من الاستعمار العسكري الأجنبي، لأن قضية التحرر الوطني اليوم وبعد سبعة عقود أو أكثر من النضال، صارت متشابكة ومتوحدة مع قضايا الحريات وحقوق الإنسان، وفي القلب منها التحرر الاجتماعي، والتحرر من الاستعمار الاقتصادي، وجعل المرأة ومكانتها السياسية، في متن صفحات الدساتير والقوانين في حقها في المساواة، وليس الارتداد بها إلى عصر الحريم،والاعدام لاتفه الأسباب، عصر ما قبل المجتمع والدولة،عودة بافغانستان إلى القروسطية، وهو ما نلمحه في توجهات طالبان بعد “النصر العسكري”، على الأمريكان والحكومة التابعة.
المصدر: بيس هورايزونس الإخباري